تَرْبِيَةُ الصِّبْيَانِ وَتَنْشِئَتُهُمْ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ
((تَرْبِيَةُ الصِّبْيَانِ وَتَنْشِئَتُهُمْ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! هَا هُنَا -أَيْضًا- مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا شَيْءٌ يَحْتَاجُهُ الْآبَاءُ وَتَحْتَاجُهُ الْأُمَّهَاتُ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِرِيَاضَةِ الصِّبْيَانِ فِي أَوَّلِ النُّشُوءِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَصِّلُوا حُسْنَ الْخُلُقِ، وَيُجَانِبُوا سُوءَ الْخُلُقِ.
((الصَّبِيُّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ جَوْهَرَةٌ سَاذَجَةٌ، وَهِيَ قَابِلَةٌ لِكُلِّ نَقْشٍ، فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ نَشَأَ عَلَيْهَ، وَشَارَكَهُ أَبَوَاهُ وَمُؤَدِّبُهُ فِي ثَوَابِهِ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ نَشَأَ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْوِزْرُ فِي عُنُقِ وَلِيِّهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصُونَهُ وَيُؤَدِّبَهُ وَيُهَذِّبَهُ، وَيُعَلِّمَهُ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ، وَيَحْفَظَهُ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَلَا يُعَوِّدَهُ التَّنَعُّمَ، وَلَا يُحَبِّبَ إِلَيْهِ أَسْبَابَ الرَّفَاهِيَةِ فَيَضِيعَ عُمُرُهُ فِي طَلَبِهَا إِذَا كَبُرَ؛ لِأَنَّهُ اعْتَادَهَا فِي الصِّغَرِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاقِبَهُ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ، فَلَا يَسْتَعْمِلُ فِي رَضَاعَتِهِ وَحَضَانَتِهِ إِلَّا امْرَأَةً صَالِحَةً مُتَدَيِّنَةً تَأْكُلُ الْحَلَالَ؛ فَإِنَّ اللَّبَنَ الْحَاصِلَ مِنَ الْحَرَامِ لَا بَرَكَةَ فِيهِ.
فَإِذَا بَدَتْ فِيهِ -أَيْ: فِي الصَّبِيِّ- مَخَايِلُ التَّمْيِيزِ وَأَوَّلُهَا الْحَيَاءُ، وَذَلِكَ عَلَامَةُ النَّجَابَةِ، وَهِىَ مُبَشِّرَةٌ بِكَمَالِ الْعَقْلِ عِنْدَ الْبُلُوغِ؛ فَهَذَا يُسْتَعَانُ عَلَى تَأْدِيبِهِ بِحَيَائِهِ.
وَأَوَّلُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ شَرَهُ الطَّعَامِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّمَ آدَابَ الْأَكْلِ، وَيُعَوِّدُهُ أَكْلَ الْخَبْزِ وَحْدَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ لِئَلَّا يَأْلَفَ الْإِدَامَ فَيَرَاهُ كَالْحَتْمِ، وَيُقَبِّحُ عِنْدَهُ كَثْرَةَ الْأَكْلِ؛ بِأَنْ يُشَبَّهُ الْكَثِيرُ الْأَكْلِ بِالْبَهَائِمِ، وَيُحَبِّبُ إِلَيْهِ الثِّيَابَ الْبِيضَ دُونَ الْمُلَوَّثَةِ، وَيُقَرِّرُ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ وَالْمُخَنَّثِينَ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ مُخَالَطَةِ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ عُوِّدُوا التَّنَعُّمَ، ثُمَّ يَشْغَلُهُ فِي الْمَكْتَبِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَأَحَادِيثِ الْأَخْيَارِ؛ لِيَغْرِسَ فِي قَلْبِهِ حُبَّ الصَّالِحِينَ، وَلَا يُعَلِّمُهُ حِفْظَ الْأَشْعَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعِشْقِ.
وَمَتَى ظَهَرَ مِنَ الصَّبِيِّ خُلُقٌ جَمِيلٌ وَفِعْلٌ مَحْمُودٌ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَمَ عَلَيْهِ، وَيُجَازَى بِمَا يَفْرَحُ بِهِ، وَيَنْبَغِي أن يُمْدَحُ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ، فَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ تُغُوفِلَ عَنْهُ وَلَا يُكَاشَفُ، فَإِنْ عَادَ عُوتِبَ سِرًّا وَخُوِّفَ مِنَ اطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَلَا يُكْثِرُ عَلَيْهِ الْعِتَابَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ سَمَاعَ الْمَلَامَةِ، وَلْيَكُنْ حَافِظًا هَيْبَةَ الْكَلَامِ مَعَهُ.
وَيَنْبَغِي لِلْأُمِّ أَنْ تُخَوِّفَهُ بِالْأَبِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ النَّوْمَ نَهَارًا؛ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْكَسَلَ، وَلَا يُمْنَعَ النَّوْمَ لَيْلًا، وَلَكِنَّهُ يُمْنَعُ الْفُرُشَ الْوَطِيئَةَ لِتَتَصَلَّبَ أَعْضَاؤُهُ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّدَ الْخُشُونَةَ فِي الْمَفْرَشِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ، وَأَنْ يُعَوَّدُ الْمَشْيَ وَالْحَرَكَةَ وَالرِّيَاضَةَ؛ لِئَلَّا يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْكَسَلُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ أَنْ يَفْتَخِرَ عَلَى أَقْرَانِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَمْلِكُهُ أَبَوَاهُ، أَوْ بِمَطْعَمِهِ أَوْ مَلْبَسِهِ، وَأَنْ يُعَوَّدَ التَّوَاضُعَ وَالْإِكْرَامَ لِمَنْ يُعَاشِرُهُ.
َويُمْنَعُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ صَبِيٍّ مِثْلِهِ، وَيُعَلَّمَ أَنَّ الْأَخْذَ دَنَاءَةٌ، وَأَنَّ الرِّفْعَةَ فِي الْإِعْطَاءِ، وَيُقَبَّحُ عِنْدَهُ حُبُّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيُعَوَّدَ أَلَّا يَبْصُقَ فِي مَجْلِسِهِ وَلَا يَتَمَخَّطُ، وَلَا يَتَثَاءَبُ بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ، وَلَا يَضَعُ رِجْلًا عَلَى رِجْلٍ، وَيُمْنَعُ مِنْ كَثْرَةِ الْكَلَاِم، وَيُعَوَّدُ أَلَّا يَتَكَلَّمَ إِلَّا جَوَابًا، وَأَنْ يُحْسِنَ الِاسْتِمَاعَ إِذَا تَكَلَّمَ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَأَنْ يَقُومَ لِمَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَأَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَيُمْنَعُ مِنْ فُحْشِ الْكَلَامِ، وَمِنْ مُخَالَطَةِ مَنْ يَأْتِي مِنْهُ فُحْشُ الْكَلَامِ، فَإِنَّ أَصْلَ حِفْظِ الصِّبْيَانِ حِفْظُهُمْ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ.
وَيَحْسُنُ أَنْ يُفْسِحَ لَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْمَكْتَبِ فِي لَعِبٍ جَمِيلٍ؛ لِيَسْتَرِيحَ بِهِ مِنْ تَعَبِ التَّأْدِيبِ، كَمَا قِيلَ: رَوِّحِ الْقُلُوبَ تَعِ الذِّكْرَ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّمَ طَاعَةَ وَالِدَيْهِ وَمُعَلِّمِهِ وَتَعْظِيمَهُمْ، وَإِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ، وَلَمْ يُسَامَحْ فِي تَرْكِ الطَّهَارَةِ لِيَتَعَوَّدَ، وَيُخَوَّفُ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَإِذَا قَارَبَ الْبُلُوغَ أُلْقِيَتْ إِلَيْهِ الْأُمُورُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَطْعِمَةَ أَدْوِيَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَقْوِيَةُ الْبَدَنِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَا بَقَاءَ لَهَا، وَأَنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُ نَعِيمَهَا، وَهُوَ مُنْتَظَرٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَأَنَّ الْعَاقِلَ مَنْ تَزَوَّدَ لِآخِرَتِهِ، فَإِنْ كَانَ نُشُوؤُهُ صَالِحًا ثَبَتَ هَذَا فِي قَلْبِهِ كَمَا يَثْبُتُ النَّقْشُ فِي الْحَجَرِ)).
المصدر:مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ وَأَثَرُهَا فِي بِنَاءِ الْحَضَارَاتِ
تعليقات فيس بوك
فوائد ذات صلة